أخبار

أحاديث معلّقة …للشاعرة خولة سامي سليقة

 

ليلة طويلة بدت بكلّ ما فيها من رياضةٍ للنفس العصيّة على الترويض، يمزّقها الألم جيئة و ذهاباً، في

الأقسام المجاورة للقسم الذي أرقد فيه، أستشعر عتمة في غير موضع، أنيناً خافتاً أحياناً، هذياناً، زفيراً

أشبه بصفير خادش للسكينة، فأصمت.

المرضُ يغير في علاقة الأجساد بطبيعتها الحقيقية، علاقتها بالأمكنة، بالأزمنة، بالأرواحِ المحيطة بها

أيضاً، ربما تكون هذه الزلازل الصغيرة في الجسد مرحلة فاصلة بين الموت و الحياة مهما كانت صغيرة،

ترققُ مشاعرنا، توقفنا مرغمين أمام مرآة ضعفنا البشريّ. في تلك الليلة بدأت آثار المخدّر تتلاشى من

أنحاء جسدي، لكنّ عقلي بدا في غياب، يجترّ موضوعاتٍ مضى عليها وقت طويلٌ و لربما صار ينبشُ

الملفاتِ العالقة، المفتوحة دفتاها بانتظارِ تعليقٍ أخير أو ختم.

بين الصور التي سيطرت عليّ حديث ابنتي الذي كان منذ خمسة عشر عاماً، في تلك الليلة إذ تجلس

قربي، و كلانا قرابة قدميها الصقيعيتين. جرى ذلك في حضرة الموت الذي لا يدفع البرودة إلى أجسادنا

في الحقيقة، بل هي الحياة تحمل أحطابها و تمضي، تطفئ آخر لهب يتراقص، تنفخ أصغر جمراتها و يهدأ

المكان.

استرجعت بذاكرتي صورة المكان مختلفاً، بدا رزيناً بشهقات الدمع الرتيبة، وحدها بنيتي الثرثارة راحت

تطقطق أصابع الصمت، توجع الهدوء المطلق بسيل أسئلتها الملحاحة:

– لمَ يغسلونها في هذا الجو البارد، مادامت الديدان ستأكل جسدها كما أخبرونا في المدرسة؟

– لو أنهم وفروا عليها وجع الماء في هذا الشتاء، فالبسوها ثياباً جيدة و كفى. لم قد تحتاج إلى شعر

نظيف تحت التراب؟ أهناك حياة أخرى عندهم؟

– كان من الرائع لو تستيقظ فتخبرنا ما تراه، لكن كيف لها أن تنطق و لم تتركوا من مخارج الحياة شيئاً

فيها إلا و أغلقتموه؟

– استخدمتم عطور و أشياء ما كانت تروق لها لما كانت على قيد الحياة. ستعاقبكم لأنها تسمعكم، ألا ترين

قدمها تحركت قليلاً؟

فقط تلك اللحظة فرّ قلبي من محبسه. صدّقت تلك المجنونة! رحت أنظر فأحس حركة طفيفة موضع القدم

أو أتوهم، قادتني تلك الجاهلة الصغيرة إلى الشتات و الغفلة. لكن لعلها حقاً حركت قدمها! الملائكة

الصغار الأنقياء، لعلهم يرون ما لا نراه. نفضت رأسي من غرق غريب قادتني إليه الشقية الطّفلة، فإذا

بها تجر دثاراً سميكاً تريد إلقاءه على قدميّ جدتها موضحة أنها تشعر بالبرد، و أنها طلبت منها ذلك.

لم أتمالك نفسي غضباً و رعباً. أتقودنا اليوم هذي المشاكسة إلى هستيريا جماعيّة؟

تركوها تضع الغطاء لتعود قربي ساكنة تتأمل شيئاً ما، تعدّ سؤالاً انفجارياً كما اعتقدت. سألت بصوت

عالٍ: أمي أتخافين لو عادت جدتي إلى الحياة أم تفرحين؟

انقسمت نظرات و همسات الحاضرات بين استهجانٍ و ابتسام، لعلنا جميعاً رحنا نفكر في خيار العودة

المباغتة فيما لو أتيح لنا. حقاً يخاف الأحياء من الأموات إن عادوا، يخافون السرّ الذي عرفوه و لن

يبوحوا به، يخشون أن تغيرهم الرحلة القصيرة فيكونوا غرباء، كما يغدو الجليد غريباً عن أبيه الماء.

صوت ناعمٌ استحثّ يقظتي، غالبتُ في سبيله ثقل رأسي و عينيّ، فتحتهما بكامل رغبتي في الحياة،

أبصرتُ ابنتي و حفيدتي قرب رأسي تبسمان، تمسحان رأسي..  ياااااه كم هي عاجزة هذي الحياة عن

ابتكار مشهدٍ جديد!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ما أكثر الذي قرأته لهذه الكاتبة المبدعة
    وما أكثر الي كتبته من تعليق حول ما كتبت
    لكني وحتى اللحظة أعلن وبقوة أن الذي وجدته في هذا المقال يفوق كل ما قرأته قبلاً من بعد عن الإيغال في الرمزية وغموض المراد أو من ثراء الفكر والإبداع في معالجة أمر لطالما شغل فكر الإنسان في أسلوب راقٍ لدرجة ظننت أحياناً أن جملاً وعبارات كثيرة فيه تستحق أن تدرج على مر الزمن كحكم أو أمثال دارجة
    بارك الله أناملاً كتبت وفكراً أبدع رياضاً نسنتمتع بين الفينة والفينة بعبق الفكر وجمال المقال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى